فصل: تفسير الآية رقم (41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (41):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يَفْعَلُونَ (41)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السموات والأرض} إلخ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم للإيذان كما في إرشاد العقل السليم بأن الله تعالى قد أفاض عليه أعلى مراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها. وقال الطبرسي. هو بيان للآيات التي جعلها نورًا والخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد به جميع المكلفين والهمزة للتقرير والرؤية هنا عنى العلم والظاهر أن إطلاقها عليه حقيقة. وقيل هي حقيقة في الإبصار وإطلاقها على العلم استعارة أو مجاز لعلاقة اللزوم، وأيًا ما كان فالمراد لم تعلم بالوحي أو بالمكاشفة أو بالاستدلال أن الله تعالى ينزهه آنًا فآنًا في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل تنزيهًا معنويًا تفهمه العقول السليمة جميع من في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم كائنًا ما كان فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركبًا كان أو بسيطًا فهو من حيث ذاته ووجوده وأحواله المتجددة له يدل على صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال منزه عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة وقد نبه سبحانه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلًا للسان الحال منزلة لسان المقال وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضًا لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الكفرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له سبحانه في الألوهية ونسبتهم إياه عز وجل إلى اتخاذ الولد ونحو ذلك مما تعالى الله عنه علوًا كبيراف، وإطلاق من على العقلاء وعيرهم بطريق التغليب، ولا يغني عن اعتباره أو اعتبار مجاز مثله إسناد التسبيح المختص بالعقلاء بحسب الظاهر كما توهمه بعض الأجلة، وحمل بعضهم التسبيح على معنى مجازي شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم ويسمى عموم المجاز. ورد بأن بعضًا من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعًا وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضًا. وفي ذلك من تخطئتهم وتعييرهم ما فيه، والقول بأن الكفرة يسبحون كالمؤمنين لكن من حيث لا يشعرون كما قال الحلاج: جحودي لك تقديس مما لا يقبله ذوو العقول وحري بأن لا يكون من المقبول، وقال بعضهم إذا كانت من للتغليب يندرج في عمومها العقلاء المطيعون والعقلاء العاصون وغير العقلاء مطلقًا فيحمل التسبيح على معنى مجازي يصح نسبته إلى كل مما ذكر وأي مانع من ذلك وهو كما ترى.
واستظهر أبو حيان إبقاء التسبيح على ظاهره وتخصيص من بالعقلاء المطيعين وما ذكر أولًا أولى.
{والطير} بالرفع عطفًا على {مِنْ} وتخصيصها بالذكر عليه مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استمرار قرارها فيها واستقلالها بصنع بارع وإنشار رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح إنبائها عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسا يعرب عنه التقييد بقوله تعالى: {صافات} أي تسبحه الطير حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما يتمكن به من الوقوف في الجو والحركة كيف شاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينًا وشمالًا ونحو ذلك حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدئ المعيد، والعطف على ما استظهره أبو حيان على {مِنْ} أيضًا وقد صرح بذلك، ونقل عن الجمهور أن تسبيحها حقيقي وظاهره أنه على نحو تسبيح العقلاء من الثقلين، ولعل ملتزم ذلك لا يلتزم وجوب كون التسبيح الحقيقي بالألفاظ المألوفة لنا وإلا لا يتسنى القول بأن تسبيحها حقيقي مع هذا الوجوب لفقد الألفاظ المألوفة لنا منها، ويجوز أن يقال: إنه تعالى ألهم الطير تسبيحًا مخصوصًا يليق بها هو غير التسبيح الحالي الذي هو الدلالة السابقة ويقدر فعل رافع لها يراد منه ذلك المعنى الملهم أي ويسبح الطير، وتخصيص تسبيحها بذلك المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودًا وأقرب حملًا على التسبيح لكن التقييد بالحال على هذا حاله في الحسن دون حاله على ما سبق.
وقرأ الأعرج {والطير} بالنصب على أنه مفعول معه، وقرأ الحسن. وخارجة عن نافع {والطير صافات} برفعهما على الابتداء والخبرية، والظاهر على هذه القراءة أن قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} خبر بعد خبر وعلى قراءة الجمهور استئناف جيء به لبيان كمال عراقة كل واحد مما ذكر من الطير وما اندرج في عموم {مَن فِي السموات والأرض} في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية، وقد أدمج سبحانه في تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه عز وجل لما يهمه بلسان استعداده، وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته عزل عن استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يليق بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداءً وبقاءً فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه في كل آن من فنون الفيوض المتعلقة بذاته وصفاته ما لا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الربانية من العلاقة لانعدم بالمرة، وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل، وتقديمها على التسبيح في الذكر لتقدمها عليه في الرتبة كذا في إرشاد العقل السليم، والكلام عليه استعارة تمثيلية والمضاف إليه الذي ناب عنه تنوين {كُلٌّ} ما يشمل المذكور المصرح به والمندرج تحت العموم حتى الجماد وضمير {عِلْمٍ} وكذا ضميرا {صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} لكل واحد وإليه ذهب الزجاج.
وزعم بعضهم أنه يكون في {عِلْمٍ} على ذلك استعارة تبعية وقال في بيان ذلك: إنه يشبه دلالة كل واحد من المذكورين على الحق بلسان الحق والمقال وميل كل منهم إلى النفع اختيارًا أو طبعًا بعلم التسبيح والصلاة فيطلق على كل واحد من تلك الدلالة والميل اسم العلم على سبيل الاستعارة ويشتق منه لفظ علم، ومن له أدنى ذوق لا يرتضيه، وجوز أيضًا أن يكون الصلاة مجازًا عن الميل والتسبيح مجازًا عن الدلالة ومع هذا قيل إنه وإن صح غير مناسب للتمثيل، وزعم بعض أن الأولى أن يجعل المضاف إليه غير شامل لجماد وليس بذاك، وجوز أن يكون ضميرا {صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} لله تعالى على أن الإضافة للمفعول، وجوز أن يكون لكل واحد مما في السموات والأرض ويكون ضمير {عِلْمٍ} لله عز وجل، وقال غير واحد: يجوز أن لا يكون هناك استعارة والعلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك ويراد بما ناب عنه التنوين أنواع الطير أو أفرادها وبالصلاة والتسبيح ما ألهمه الله عز وجل كل واحد من الدعاء والتسبيح المخصوصين به، ولا بعد في هذا الإلهام فقد ألهم سبحانه كل نوع من أنواع الحيوانات علومًا دقيقة لا يكاد يهتدي إليها جهابذة العقلاء وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره أصلًا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الحيوانات من الإدراك قالوا: إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل إلى جحره، والجملة على هذا لبيان كمال الرسوخ في الأمرين وأن صدورهما عن الطير ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإتقان نظير ما مر لكن لا على سبيل التمثيل، وقدر فعل رافع للطير عليه أي ويسبح الطير كما تقدم ولم تجعل معطوفة على {مِنْ} مرفوعة برافعها قيل لأنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح الدال عليه الفعل المذكور معنى مجازي شامل للتسبيح المقالي والحالي من العقلاء وغيرهم، وقد تقدم ما فيه، وجوز جعل ما ناب عنه التنوين ما يشمل الطير وغيره من المندرج في العموم السابق، وفيه أن مما اندرج في العموم الجماد ولا ينسب إليه العلم وإن كان عنى مطلق الإدراك والتزم أن له علمًا وأنه سبحانه ألهمه صلاة وتسبيحًا لائقين به مما لا يرتضيه كثير من الناس، وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام في سورة الإسراء فتذكر.
وجوز بعضهم على تقدير حمل العلم على المعنى الحقيقي أن يكون عطف التسبيح على الصلاة من عطف التفسير، وأنت تعلم أنه إذا قيل ذلك على ذلك التقدير فما المانع من قبوله على التقدير السابق من جعل الاستعارة تمثيلية، نعم يفوت حينئذٍ الإدماج الذي أشير إليه فيما مر وهو ليس انع، والحق أن احتمال التفسير بعيد ولا داعي إلى ارتكابه بل يفوت عليه ما يفوت كما لا يخفى، وقوله تعالى: {والله عَلِيمٌ بما يَفْعَلُونَ} أي بالذي يفعلونه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، و{مَا} إما عبارة عن الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندًا إلى ضمير العقلاء لما أشرنا إليه أول الكلام، وأما عبارة عنها وعن التسبيح الخاص بالطير معًا أو عن تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ضمير العقلاء لما مر، والاعتراض حينئذٍ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل، وإما عبارة عن الأعم من الصلاة والتسبيح وغيرهما من الأفعال الصادرة عمن في السموات والأرض والأحوال العارضة له والاعتراض حينئذٍ مقرر لمضمون {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ} أي الله تعالى صلاته وتسبيحه وأمر التعبير بالفعل والإسناد إلى ضمير العقلاء لا يخفى، ولتعدد الأوجه فيما مر تعددت الاحتمالات هنا فتأمل ولا تغفل.
وقرأ الحسن. وعيسى. وسلام. وهارون عن أبي عمرو {تَفْعَلُونَ} بتاء الخطاب، وفيه كما قيل وعيد وتخويف ولعل الظاهر أن الخطاب فيه للكفرة، ورا يجوز أن يكون ضمير الجمع على قراءة الجمهور لهم أيضًا على أن المراد بالجملة تخويفهم لإعراضهم عن تسبيحه تعالى بعد أن أخبر سبحانه عمن أخبر بأنه قد علم صلاته وتسبيحه، وهذا وإن كان بعيدًا إلا أن في القراءة المذكورة نوع تأييد له.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}
{وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} لا لغيره تعالى استقلالًا أو اشتراكًا لأنه سبحانه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادًا وإعدامًا وإبداءًا وإعادة، وقوله تعالى: {وإلى الله} أي إليه عز وجل خاصة لا إلى غيره أصلًا {المصير} أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المنتهى إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبتدأ، وقيل: إن الجملة لبيان أن ما يرى من ظهور بعض الآثار على أيدي المخلوقات لا ينافي الحصر السابق بإفادة أن الانتهاء إليه تعالى لا إلى غيره ويكفي ذلك في الحصر ولعل الأول أولى، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (43):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَابًا} إلخ كالتأكيد لما قبله والتنوير له والإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة، وقيل: سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئًا بعد شيء على قلة وضعف، وقيل: أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها، وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماءًا إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة، والمعنى كما في البحر يسوق سحابة إلى سحابة {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} بأن يوصل سحابة بسحابة، وقال غير واحد: السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله:
بين الدخول فحومل

واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جنس جمعي على ما سمعت.
وقرأ ورش عن نافع {يُؤَلّفُ} غير مهموز {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي متراكمًا بعضه فوق بعض {فَتَرَى الودق} أي المطر شديدًا كان أو ضعيفًا إثر تراكمه وتكاثفه، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بجيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل، وقيل: هو مفرد كحجاب وحجاز، وأيد بقراءة ابن عباس. وابن مسعود. وابن زيد. والضحاك. ومعاذ العنبري عن أبي عمرو. والزعفراني من {خلله} والمراد حينئذٍ الجنس، والجملة في موضع الحال من {فَتَرَى الودق} لأن الرؤية بصرية، وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجًا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء} أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلًا فيما ينزل بناءً على المشهور في سبب تكون البرد، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل {مِن جِبَالٍ} أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] والمراد بها قطع السحاب، ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في «الدرر» و«الغرر الرضوية» قول الأصبهاني: إن الجبال ما جبله الله تعالى أي خلقه من البرد {فِيهَا} أي في السماء، والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال، وقوله تعالى: {مِن بَرَدٍ} وهو معروف، وسمي بردًا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول {يُنَزّلٍ} على أن من تبعيضية، وقيل: زائدة على رأي الأخفش والأوليان لابتداء الغاية، والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو بردًا.
وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر، وقيل: من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل: زائدة على رأي الأخفش أيضًا والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالًا كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد، وعن الأخفش إن {مِنْ} الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالًا بردًا ومآله ينزل من السماء بردًا.
وقال الفراء: هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيتهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ و{فِيهَا} خبره والضمير من {فِيهَا} للجبال أي ينزل من السماء جبالًا في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره، وإما على أنه فاعل {فِيهَا} لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضًا. والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازًا وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل:
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ** لها شاعرًا مني أطب وأشعرا

وأكثر بيتًا شاعر ضربت له ** بطون جبال الشعر حتى تيسرا

ويقال: عنده جبل من ذهب وجبل من علم، وعن مجاهد. والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلة وبالجبال حقيقتها قالوا: إن الله تعالى خلق في السماء جبالًا من برد كما خلق في الأرض جبالًا من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل، والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التس سمي بخارًا ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلًا إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعدًا عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف بالتصاعد شيئًا فشيئًا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرًا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردًا أو نزلت ثلجًا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحًا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحًا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارًا وقد ينعقد المطر بردًا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عندما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفًا فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع، وليس بحيث يصير سحابًا فيكون منه الطل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابًا ويمطر بحاله، والحق أن كل ذلك مستند إلى إرادة الله عز وجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسًا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال: إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لاسيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس {فَيُصِيبُ بِهِ} أي بما ينزل من البرد {مَن يَشَآء} أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} أن يصرفه عنه فينجو من غائلته، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر.
وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى {الودق} والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان اه وفيه بعد ومنع ظاهر.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما صمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر.
وقرأ طلحة بن مصرف {سناء} ممدودًا {سَنَا بَرْقِهِ} بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة. واللقمة، وعنه أيضًا أنه قرأ {بَرْقِهِ} بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في {ظلمات} [النور: 40] والسناء ممدودًا عنى العلو وارتفاع الشأن، وهو هنا كناية عن قوة الضوء، وقرئ {يَكَادُ سَنَا} بإدغام الدال في السين {يَذْهَبُ بالابصار} أي يخطفها من فرط الإضارة وسرعة ورودها؛ وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث أنه توليد للضد من الضد.
وقرأ أبو جعفر {يَذْهَبُ} بضم الياء وكسر الهاء، وذهب الأخفش. وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا: لأن الباء تعاقب الهمزة، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية، وقد أخطآ في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبي وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضًا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء عنى من كما في قوله:
فلثمت فاها قابضًا بقرونها ** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية.